هل يمكن أن يأتي يوم يعوض فيه إنسان آلي غياب الآباء، وهل يمكن أن يفضل أبناؤنا والدا أو والدة مبرمجين علينا؟
طفل مندمج في لوحته الإلكترونية (تابليت)، يأتي والداه إلى باب غرفته ويناديانه فلا يجيب، ويكرران فيرد دون أن ينظر إليهما، ثم يستأذنانه أن يقابل أحدا.
أخيرًا ينتبه الطفل وينظر إليهما فيعرفانه على الإنسان الآلي الجديد. هذه لقطة من إعلان لعبة جديدة تمد الأطفال بدعم عاطفي واجتماعي وتعلمهم الاحتكاك بالبشر بدلا من العزلة والعكوف على الأجهزة. يتحكم الآباء فيها عن طريق تطبيق على هاتفهما للتواصل مع أبنائهم في محاولة باهظة الثمن لإعطائهم شيئا مما يفتقده.
التعليم والأمان
صار الاعتماد على الأجهزة من متطلبات التعليم في المدارس والجامعات وهذا مفهوم، لكنه أيضا صار مدخلا لاستخدامات أخرى تأتي بقدر كبير من المشاكل.
صحيح أن هناك نسبة قليلة من الأبناء الذين يستطيعون السيطرة على أنفسهم واستخدام أجهزتهم بمسؤولية تامة لكنهم الاستثناء، والحكمة تقتضي عدم بناء قراراتنا على استثناءات. وخاصة أن الأجهزة الصغيرة كالهواتف الذكية تكون شديدة القرب فتقتحم الحياة وتقاطع كل ما نفعل دون أن نشعر حتى نرى أثرها على قلة التحصيل وتشتت التركيز وعشوائية الإنتاجية وهنا يصعب إيقافها، فقد وصل الأمر إلى درجة الإدمان.
كما أن النشء قد لا يملك حكمة طلب المساعدة حين الحاجة أو حتى قبولها، فينتهي الأمر لأن تصبح الأجهزة التي نحضرها لتحسن من مستواهم االدراسي هي العائق الأكبر أمام تحصيلهم، والهاتف الذي نشتريه لنطمئن عليهم في أي مكان، قد يرشد المحتالين والمتنمرين إليهم، فيتقوقعون وينعزلون فنشتري له جهازا آخر يعلمه كيف يتعامل مع والديه وبني جنسه.
تقول دكتورة مهندسة آيات حاتم أستاذ مساعد بجامعة كاليفورنيا (ستانيسلاوس)، إن “وظيفة الأب والأم ليست السماع فقط وتشجيع الأبناء كإنسان آلي مبرمج، فلا حرج أن يرانا أبناؤنا ونحن نغضب ونهدأ ونخطئ ونعتذر ونصحح الخطأ، فهذا هو الواقع، أما إحاطتهم بأجهزة حتى وإن كانت إيجابية فيصدمهم آجلا أو عاجلا، إذ إنها لا تقدم الحقيقة ولا تعدهم للتعامل مع الدنيا”.
لماذا إنسان آلي تربوي؟
مع انشغال الأسر وزيادة الضغوط والتباعد الاجتماعي في كثير من الدول، تأثرت مهارات الأطفال الاجتماعية وذكاؤهم الاجتماعي، ولا يخفى أن العلاج النفسي لا يتوافر، وإن وجد فطريقه صعب إذ على الشخص أن يستمر في التجربة حتى يجد أفضل معالج له، لذا فوجود إنسان آلي محفز يحد تلك المشاكل.
لكن الدكتورة آيات التي تعلم أولادها منزليا ترى بعدا آخر “لا يمكن أن نقارن معالجا نفسيا بإنسان آلي، فالأول يسأل ويلاحظ ويكتب خطة علاج بالتضامن مع الأهل والطفل، ثم يعيد تقييمها وتقويمها، فهو ليس مجرد أسطوانة شكر وتشجيع مبرمجة مسبقا، بل دوره فعال ومتطور”.
أكبر المخاوف وأسئلة مصيرية
هل يمكن أن يأتي يوم يعوض فيه إنسان آلي غياب الآباء؟ هل يمكن أن يفضل أبناؤنا والدا أو والدة مبرمجين علينا؟ إجابة أي من هذه الأسئلة بالإيجاب هو سيناريو لأفلام رعب ألفت عن الإنسان الآلي ومحاولته السيطرة على البشر. نشاهد الفيلم ولا يقلقنا لأننا نعلم أنه من الخيال العلمي وأن الإنسان الآلي ما زال اختراعا بدائيا بالنسبة للبشر.
لكن الحقيقة هي أننا نرى نماذج مصغرة لهذا الاستبدال تظهر في تفضيل الأبناء لهواتفهم على قضاء وقت مع الأسرة، بل ويرفضون الخروج لينفردوا بالأجهزة، وهذا في حد ذاته كاف للنظر في مدى اقترابنا من أفلام الرعب التي نستبعدها.
ذكاء أبنائنا والذكاء الاصطناعي
لا شك أن البشر يعلمون الإنسان الآلي ويمدونه بذكائه الاصطناعي، لكن الأجهزة بدورها صارت تعلم الإنسان وتؤثر في قدراته الذهنية، فهل علينا أن نقلق؟
يقول دكتور مهندس عمرو زكي، المحاضر بقسم الحاسوب بجامعة سانتا كلارا، كاليفورنيا “فكرة تقدم الإنسان الآلي لدرجة تهدد البشر هو من باب الإثارة أو المناقشة الفلسفية، إنما في الواقع لا يمكن أن يقترب تقدم أذكى جهاز من ذكاء أغبى إنسان. الحاسوب ممكن أن يقوم بحسابات سريعة تستغرق منا وقتا طويلا فيحسب بسرعة أفضل خطوة في لعب الشطرنج لكن بطل العالم في الشطرنج سيغلبه، فهو يتبع تسلسلات حسابية. أما الإنسان فهو غاية في الإبهار والتعقيد”.
وحول المشاعر والذكاء الاجتماعي لدى الروبوت يقول دكتور مهندس زياد زكي، الحاصل على الدكتوراه من جامعة بيركلي، كاليفورنيا ومبرمج حاسوب (كمبيوتر) “ليس معنى أننا كبشر لدينا مشاعر هو أننا نستطيع تعليمها لجهاز. إن لم يكن الوالدان موجودين أتفهم الاستعانة بأدوات مساعدة في حدود، أما إن كانا بنفس البيت فلم لا يتحدثان مباشرة مع أولادهما؟”.
تجيب عن هذا السؤال دكتورة آيات التي تعلم أولادها منزليا “كثير من جيلنا -جيل الثمانينيات والتسعينيات- يحب الاستسهال، لا يريد أن يبذل جهدا في التربية، وكلما زادت المواجهات لجؤوا إلى طرق مختصرة لكن تربية الأولاد ليست سهلة والاستسهال له ثمن أغلى على المدى البعيد من الوقت والطاقة التي سنوفرها الآن، وأكثر من يدرك ذلك هم رواد التكنولوجيا في العالم الذين يحدون من استخدام أبنائهم للأجهزة بل ويدفعونهم لقضاء وقت في القراءة وفي الطبيعة، بعيدا عن تلك التكنولوجيا”.
لا يمكن الحكم على الفكرة كلها بالفشل، لكنها تدفعنا إلى التفكر في هذا الجيل الذي اختلط لديه الواقع بالخيال والمشاعر الحية بالمبرمجة، وربما يدفعنا هذا إلى مزيد من الحسم لمصلحتهم.