أن تنتحل شخصية مغايرة تماما لما أنت عليه بالفعل وتحاول إخفاء هويتك ودينك ولونك وجذورك هو أمر مستحيل التحقق عمليا، ورغم ذلك لا يتردد البعض في فعله انسحاقا أمام الآخر أو بحثا عما يعتقد أنها حياة مريحة.
قد تفعل ذلك مجموعات بشرية بكاملها، فتضل الطريق إلى المستقبل، ذلك أن إنكار الهوية يؤدي إلى تحول البشر أفرادا وجماعات إلى مجرد مسوخ تحمل ملامح ثقافة منسحقة وأخرى ساحقة، وتنتهي غالبا بنهاية ميلودرامية.
يدرك الأفارقة في العالم الأبيض (أوروبا أو أميركا) هذه المعادلة منذ زمن طويل عبر تجارب لا حصر لها، ورغم ذلك يسقط بعضهم في الحفرة نفسها التي يطلق عليها “كراهية الذات” وينكرون هوياتهم الواضحة.
ويقدم الممثل والكاتب والمخرج البريطاني ناثانيال مارتيلو وايت فيلم “الشاردون”(The Strays) الذي يعرض حاليا على منصة نتفليكس، ويستعرض خلاله واحدة من تجارب الانسحاق أمام الآخر في أولى تجاربه ككاتب ومخرج معا.
ولعل التجربة الشخصية للمخرج الإنجليزي ذي الأصول الأفريقية هي الملهم الأول الذي منحه تلك الطاقة الوحشية والدافئة في الوقت ذاته عبر فيلم ميلودرامي يسير على حافة العنف من جهة، ويقترب من خدش قدسية الأمومة من جهة أخرى، لكن لعبته الأساسية هي تلك الهزيمة الداخلية التي تؤدي إلى التنازل عن الذات لصالح الآخر.
تدور أحداث “الشاردون” حول شيريل (أشلي ماديكوي) المعروفة باسم “نيفي” التي تعيش حياة مميزة في ضاحية بريطانية غريبة مع زوجها إيان (جاستن سالينغر) وطفليها المراهقين سيباستيان وماري (صموئيل سمول وماريا ألميدا).
ونيفي هي نائبة مدير مدرسة خاصة فاخرة، لكن شخصيتين غير معروفتين (بوكي باكراي وجوردن ميري) تكشفان ماضيها.
رعب اجتماعي
فيلم قادم من بريطانيا، وهي قوة الاحتلال الأشهر والأكثر حضورا في العالم لأكثر من قرنين من الزمان، ورغم ذلك فهو يحمل بين مشاهده وعدا بإعادة التوازن يلتزم به مخرج ينطلق من تجربته الخاصة كبريطاني من أصول أفريقية لا يخفي رغبته في اقتحام أسوار أحياء الأغنياء البيض وكشف تناقضاتها.
يحتوي الفيلم على 4 وحدات زمنية تبدأ مع المشهد التمهيدي، ورغم الفارق الزمني الكبير نسبيا بين بداية العمل ونهايته فإن السرد الفيلمي يتم بسلاسة وانسيابية بفضل الإيقاع الرائع وشريط الصوت الذي برزت فيه موسيقى تصويرية خفية وممتعة في الوقت ذاته.
يبدأ الفيلم بمشهد تمهيدي سابق على عرض لوحات الفيلم في ما يسمى “أفان تتر”، وصوّر خلاله صناع العمل حالة البؤس التي تعيش فيها “شيريل” الأم وشكواها المستمرة من الحرمان وتطلعها للمال ولحياة أكثر سعة، ثم هروبها من بيتها تاركة طفليها الصغيرين دون راع.
ويحسب للمخرج ذلك الفصل الشعوري وليس الزمني فقط بين النسخة القديمة الفقيرة من الشخصية “شيريل” والانتقال إلى الشخصية نفسها باسم جديد هو “نيفي” بعد أن حققت أحلام الثراء والانتماء إلى طبقة مختلفة تماما، وأصبحت تتحدث بلهجة الطبقة العليا في المجتمع.
استطاع المخرج ناثانيال مارتيلو أن يبرز العلامات الطبقية بوضوح بداية من اللقطة الأولى للعمل التي صورت مبنى للإسكان الشعبي، وقد وضعت الكاميرا في الأسفل ليبدو المبنى رغم صغر حجم الوحدات المكونة له عملاقا مسيطرا وخانقا في الوقت ذاته لمن يقيمون فيه.
وعلى العكس تماما صوّر المخرج -من خلال نافذة السيارة- الحي الغني الذي انتقلت إليه “شيريل” لتصبح “نيفي” مدى اتساع الشوارع وحدائق البيوت وانتشار اللون الأخضر على جوانب الطرق وفي مداخل البيوت.
وأراد مارتيلو أن يصور ذلك الاختناق الذي يعانيه سكان المباني الشعبية المتواضعة في مقابل البراح الذي يعيش فيه الأغنياء، وقد وصلت الفكرة، لكن السؤال الأهم: هل يصلح ما صوره صانع العمل مبررا للانسحاق أمام الأغنياء وهجر الأطفال وتركهم في مهب الريح؟
وكما جاء اهتمام مارتيلو باللغة البصرية الموحية والراقية جاء اهتمامه بالتفاصيل الناقلة للمعنى في أداء الممثلين بشكل عام وبطلة العمل “أشلي ماديكوي” بشكل خاص.
بدا أن “أشلي” توحدت مع دورها بشكل لا يصدق في أغلب المشاهد وإن تاهت منها الانفعالات في بعض جوانب الشخصية، خاصة مشهد نقاشها مع ابنها وابنتها من الزواج الأول اللذين هربت منهما، حيث ظلت خارج الحالة، لكن لمسات المخرج بدت واضحة مع حركتها المميزة عبر الفيلم، إذ تثير الباروكة نوعا من الحكة في رأسها دائما فتمتد يدها أسفل الباروكة التي تخفي شعرها الأفريقي الحقيقي بشعر مستعار.
لم تتوقف الأم الهاربة من طفليها عن التنكر لهويتها وطفليها والهروب بعيدا عنهما، لكنها اتخذت موقفا عنيفا من السود في المدرسة التي تعمل فيها، لدرجة أن مدير المدرسة الأبيض يحاول مجاراتها في محاولاتها لطرد السود من المدرسة لكن بطريقة لا تؤدي إلى اتهام الإدارة بالتمييز العنصري، وقد اعترف أحد أطفالها لأبيه قائلا: والدتي تنكر تماما أنها غير بيضاء.
انتقام الشاردين
نحن أمام حياتين، الأولى انتهت بهروب الأم تاركة طفليها، وبدأت الأخرى مع زواجها من رجل أبيض وإنجابها طفلين آخرين.
كبر الأطفال الأربعة، لكن في بيئتين متناقضتين تماما، فتشكلت لدى الطفلين المهجورين مساحات لا تصدق من القسوة كانعكاس طبيعي لمعاناتهما خلال 20 عاما بعد عرضهما للتبني والتخلي عنهما وتعرضهما لكل أنواع الاعتداءات، أما طفلا الرجل الأبيض من “نيفي” فقد تعلما جيدا واستمتعا بحنان الأبوين.
يظهر الطفلان المهجوران في حياة أمهما، حيث يتجه الأكبر للحصول على وظيفة في المدرسة -التي تعمل في إدارتها والدته- كعامل نظافة، أما شقيقته فتنتهز الفرصة لإنشاء صداقة مع أختها لأمها، لتتعرف على ما تستمع به الأخت المحظوظة.
مارس المخرج ألعاب التشويق والإثارة منذ ظهور الطفلين، حيث بدا أنهما هلاوس بصرية تتعرض لها الأم “نيفي”، فهي ترى ابنها الأكبر في أماكن مختلفة، وفي كل مرة تقترب من الانهيار، وحين تلمح ابنها المهجور مع أخته في المدرسة تصمم على طرده باعتباره عامل نظافة غير منضبط.
وفي عيد ميلاد أخته التي قاست معه مشوار الحياة بدون أم يقرر الابن الأكبر المهجور اقتحام منزل أمه والحصول على حقوقه كاملة والثأر لسنوات الحرمان التي عاشها مع شقيقته، وبالفعل يقتحم المراهق وشقيقته منزل والدتهما وزوجها الأبيض وطفليها، لكن لا يستطيع الانتقام لأن الأم التي هجرت طفلين لا يصعب عليها أن تهجر 4 أطفال.
تأويل
يدين صناع العمل آلية التمييز المستمر من قبل الأم/ الأرض بين أبنائها، ويدينها شخصيا، خاصة حين تتسلل هاربة من منزل الزوج الأبيض، فيما تدور رحى عملية انتقام يقودها أبناؤها ضد بعضهم البعض.
ويقدم النص السينمائي الممتع الذي صنعه ناثانيال مارتيلو وايت رؤية تتعلق برمزية المرأة باعتبارها رحم البشرية أو الأرض التي أنجبت عرقين هما الأسود والأبيض، واختارت أن تمنح العرق الأبيض امتيازات مكنته من السيطرة على الثروة والسلطة والنفوذ.
ويبشر مارتيلو بعنف انتقامي قادم سيحاول من خلاله الأفارقة الثأر والحصول على الحقوق التي نهبت على مر التاريخ.
التعليقات مغلقة.