السرطان من أكبر التحديات التي يواجهها الإنسان في مجال الصحة، حيث يمثل السبب الثاني للوفيات ويعد أكبر مستنزف لميزانيات الرعاية الصحية والبحث العلمي في العالم.
وتشير التقارير إلى أن وفيات السرطان عام 2019 قاربت 10 ملايين، بزيادة بلغت 66% مقارنة بالعام 1990. كذلك قدرت تكلفة الرعاية لمرضي السرطان عام 2020 بنحو 160 مليار دولار. ومثلت أدوية العلاج الكيميائي (الكيماوي) أكثر من 14% من سوق الدواء في العالم عام 2018 بقيمة تجاوزت 123 مليار دولار.
وتبرز الأرقام الواردة في هذه التقارير فداحة الأزمة الناتجة عن السرطان ومدى تأثيرها على قطاعات حيوية مثل الصحة وصناعة الدواء، مما حدا بالدول ومؤسسات البحث العلمي إلى توجيه جهودها للبحث في مجال السرطان على 3 محاور رئيسية هي التشخيص والعلاج والوقاية.
وهنا يبرز السؤال: لماذا تعد مواجهة السرطان صعبة إلى هذا الحد؟
ما هو السرطان؟
الأورام هي نمو شاذ للخلايا ينتج عنه تكون كتلة غير طبيعية منها في أحد أنسجة أو أعضاء الجسم. وبحسب كلية الطب بجامعة ستانفورد فالأورام تنقسم إلى أورام حميدة (غير سرطانية) وأورام خبيثة (سرطانية). ويختلف هذان النوعان من الأورام في وجهين أساسيين، وهما سرعة النمو والقدرة على الانتشار لأنسجة وأعضاء أخرى وتدميرها.
الأورام الحميدة عادة بطيئة النمو، ولا تنتشر إلى أنسجة أو أعضاء أخرى في الجسم، بينما تنمو الأورام السرطانية سريعا، وتستطيع الانتشار إلى أعضاء أخرى في الجسم. وتعد هاتان الصفتان سمات مميزة لما يزيد عن مئة مرض اصطلح على تسميتها مجتمعة بالسرطان، أي أن السرطان ليس مرضا واحدا، ولكنه اسم لأي ورم خبيث.
يطلق على هذه الأمراض أسماء تميزها عن بعضها مثل سرطان الثدي أو سرطان الدم الحاد، أو سرطان الجلد… ولكل نوع منها صور مختلفة اصطلح على تسميتها بـ “نوع فرعي” (subtype) والتي قد تكون 3 أو 4 أنواع فرعية لنوع واحد من السرطان.
والملاحظ أن المعاملة أو العلاج الذي ينجح مع أحد أنواع السرطانات لا ينجح بالضرورة مع نوع آخر، بل إن الأنواع الفرعية للنوع الواحد تعالج بطرق مختلفة عن بعضها، ويرجع ذلك لحقيقة مهمة، وهي أن السرطان يحدث نتيجة لطفرة في التركيب الوراثي للفرد ينتج عنه عطب في جين أو أكثر من جيناته.
وهذا العطب قد يولد به الفرد فيكون في هذه الحالة موروثا، أو يحدث خلال فترة الحياة (نتيجة للتعرض لملوثات أو أمراض) فتكون الطفرة والعطب في هذه الحالة مكتسبة.
وقد نشأ علم خاص لدراسة السرطان هو علم الأورام (oncology) ويعتمد على الكثير من فروع الطب كعلم الأمراض والمناعة والكيمياء الحيوية والتحاليل الطبية. كما أن علم الأورام استفاد بشدة من علوم أخرى خارج العلوم الطبية مثل علوم الحاسوب وتحليل البيانات والمعلوماتية الحيوية.
حالة نادرة في علم الأورام
بحسب المتعارف عليه في علم الأورام، يمكن أن يشفى المصاب بالسرطان في حالة التشخيص المبكر للمرض. ويمكن أيضا أن يعود المرض مرة أخرى، بعد عدة سنوات بهجمة جديدة عادة ما تكون أخطر من الأولى.
وتشير بيانات بوابة سي بايو لتحليل بيانات جينوم السرطان (cBio Portal for Cancer Genomics) إلى أن احتمال وفاة المريض -خلال 3 سنوات بعد الهجمة الثانية- قد يصل إلى 50% في بعض أنواع السرطان.
غير أن العلماء في مركز إسبانيا القومي لأبحاث السرطان قد وجدوا حالة نادرة تعد الأولى من نوعها التي يتم تسجيلها لسيدة أصيبت خلال 26 سنة بـ 12 ورما مختلفا منها 5 حميدة، و7 سرطانية.
أصيبت السيدة بأول أورامها وهي في سن سنتين، وآخر تشخيص لها بورم كان في سن 28 سنة، حيث أجريت لها جراحة لإزالته، ولم تصب بأي أورام من وقتها ولمدة 8 سنوات حتى الآن. وقد قام الفريق المكون من 15 باحثا بنشر دراسة تفصيلية عن الحالة في دورية “ساينس أدفانسز” (Science Advances).
نتائج مثيرة تحتاج للتفسير
حلل الفريق جينوم السيدة بحثا عن الطفرة الوراثية التي أدت إلى حدوث عطب جعلها أكثر عرضة للإصابة بالأورام من غيرها، فوجدوا أن جينومها يحتوي على طفرة جينية لم تسجل من قبل.
الطفرة الجديدة هي طفرة في جين يسمى “mitotic arrest deficient 1 like 1” ويعرف اختصارا بـ “MAD1L1” وينتج هذا الجين بروتينا يسمى “MAD1” ويلعب دورا هاما في انقسام الخلية، بحسب قاعدة بيانات “يونيبروت (UniProt) لبيانات البروتينات.
كما أن هذا الجين يستخدم أحيانا كأحد الكواشف الحيوية لقياس التطور في بعض حالات سرطان الثدي، أي أن وجود علاقة بين هذا الجين والسرطان ليس أمرا جديدا بالكامل بل إن قاعدة بيانات كوزميك لطفرات السرطان (Catalogue Of Somatic Mutations In Cancer – COSMIC) تشير إلى وجود أكثر من ألفي طفرة مسجلة من هذا الجين في حوالي 42 ألف عينة تم تحليلها.
لكن الجديد هو أن السيدة تحمل الطفرة المسببة للعطب في نسختي الجين المورثتين من والدتها ووالدها، حيث حلل الفريق جينوم الوالدين ووجد أن كلا منهما يحمل نسخة من الجين المعطوب، وقد انتقلت النسخة المعطوبة منهما إلى الابنة.
ولأن هذا الجين يلعب دورا هاما في انقسام الخلية فيعتقد أن العطب جعل خلايا جسدها أكثر عرضة لتكوين الأورام. ويقوم هذا الجين بدور ضروري في إحدى مراحل انقسام الخلية، والتي يقف فيها كل كروموسوم جنبا إلى جنب مع نسخته الثانية. ويعتقد أن العطب الناتج عن هذه الطفرة المزدوجة النادرة يسبب خللا في عدد الكروموسومات في الخلايا الجديدة الناتجة عنه.
ويعضد هذا التفسير كون الفريق وجد أن نسبة الخلايا المختلة في دم المريضة تصل إلى 40%، أي أن عدد الخلايا التي تحتوي على عدد كروموسومات يختلف عن الـ 46 كروموسوما يتجاوز ثلث خلايا الدم.
قدرة استثنائية على النجاة
وقد درس الفريق كيفية تعامل الجسم مع الخلايا المختلة الناتجة عن الانقسام الخلوي المختل. ووجد العلماء أن الجهاز المناعي يتعامل مع هذه الخلايا المختلة كما لو كانت أجساما دخيلة فيهاجمها بهدف القضاء عليها. مما يجعل الجهاز المناعي للمرأة موضوع الدراسة نشطا جدا، وقادرا على تمييز الخلايا المختلة والتخلص منها أولاً بأول.
ويعتقد العلماء أن هذا النشاط الدائم لجهاز المناعة لعب دورا رئيسيا في منح هذه المرأة قدرة استثنائية على النجاة من هجمات السرطان المتكررة، وهي مفارقة تدعو للتأمل حيث إن نفس العطب الذي تسبب في كونها أكثر عرضة للمرض هو ما جعلها أيضا أكثر قدرة على مقاومته.
ولفتت هذه النتائج نظر العلماء إلى الآلية التي يتبعها جهاز المناعة في التعرف على الخلايا المختلة، والتخلص منها. ويطمحون إلى أن تفتح هذه الدراسة بابا جديدا لفهم أكبر لهذه الآلية ومحاولة استغلالها في إيجاد طريقة جديدة لتنبيه الجهاز المناعي لمرضى السرطان ليقوم بنفس عمل جهاز مناعة هذه المرأة فيصبح المرضى أكثر قدرة على مقاومة الأورام، وترتفع نسبة الشفاء.
التعليقات مغلقة.