تتلاحق رحلات رواد الفضاء إلى محطات الفضاء الدولية، ويتسارع السباق المحموم لإقامة مستعمرات بشرية على كوكب المريخ. وقد رصد العلماء عبر عدة دراسات بحثية أن بقاء الإنسان في الفضاء لفترات طويلة في ظل جاذبية ضعيفة لا يخلو من تبعات وعواقب تؤثر سلبا على صحة الإنسان. ومن الضروري حصر كل هذه المخاطر الصحية وإيجاد حلول لها حتى لا تهدد حلم البشرية بالسفر إلى الفضاء وتحويل المريخ إلى امتداد لكوكب الأرض.
فتش عن الجاذبية
في فيلم “الفضاء الذي بيننا The Space Between us” اكتشفت رائدة الفضاء حملها أثناء الرحلة إلى أول مستعمرة بشرية على المريخ، لتلقى مصرعها أثناء مخاض الولادة، وينشأ ابنها متكيفا مع جاذبية المريخ الأضعف مقارنة بالأرض حتى يبلغ من العمر 16 عاما. هذه النشأة لفترة طويلة على كوكب المريخ جعلت قلب الشاب لا يحتمل الخروج من المستعمرة الفضائية والعودة على الأرض.
وعندما يصر الفتى على العودة إلى الأرض يجرون له جراحة لزيادة كثافة عظامه ويبدأ تدريبات التكيف مع مناخ الأرض، وقد كانت عودته إلى الأرض محفوفة بالكثير من المخاطر لأن قلبه لن يستطيع أن يحتمل جاذبية الأرض القوية، ومن ثم لن يستطيع ضخ الدماء لكل أعضاء الجسم. وتتوالى الأحداث وينهار قلب الشاب فيسرع به والده الملياردير إلى مكوك فضائي للوصول إلى منطقة التحرر من الجاذبية لإنقاذ حياته، ويقرر أن يعيش مع ابنه في المريخ مدى الحياة.
ربما يكون ذلك الفيلم هو الوحيد الذي تقوم قصته بالكامل على أخطار السفر إلى الفضاء على أجسامنا البشرية. وكيف يهدد السفر للفضاء حياتنا بالخطر بفعل الجاذبية. لكن الفارق الوحيد بين البطل ورواد الفضاء أنه نشأ في كوكب له جاذبية ضعيفة بينما رواد الفضاء الذين يسافرون إلى محطة الفضاء الدولية فإنهم ولدوا وعاشوا في جاذبية الأرض ثم انتقلوا للعيش في جاذبية ضعيفة للغاية لمدة 6 أشهر.
تأثير الفضاء على حركة السوائل في الجسم البشري
يقضي رواد الفضاء فترات طويلة تصل إلى 6 شهور في المحطة الفضائية الدولية، وفي تلك الفترة تحاول أجسامهم التكيف مع ظروف الجاذبية الضعيفة أو شبه المنعدمة على المحطة الفضائية، لكن ذلك لا يحدث من دون قائمة طويلة من المخاوف والأضرار السلبية التي يتعرضون لها.
وقد أجرت عدة جامعات أميركية مؤخرا دراسة علمية نشرت في دورية “ساينتفيك ريبورتس Scientefic Reports” لتقييم تأثير الجاذبية شبه المنعدمة على وظائف الدماغ لدى رواد الفضاء، وهي الأولى من نوعها التي تركز على التحليل المقارن لجانب مهم من صحة الدماغ في الفضاء، وبالأخص المناطق المحيطة بالأوعية الدموية في الدماغ التي يدخل السائل الدماغي النخاعي من خلالها إلى الدماغ وهي مسؤولة عن تصريف السوائل الدماغية حول المنطقة الرمادية.
وكما جاء في تقرير لموقع ساينس ألرت Science Alert فقد رصدت الدراسة تغييرات مقلقة تصاحب رواد الفضاء طوال الفترات بين بعثات السفر إلى الفضاء. وخلال الدراسة أجرى الباحثون في مختلف الولايات الأميركية سلسلة من فحوصات التصوير بالرنين المغناطيسي على أدمغة 15 رائد فضاء قبل إقامتهم لمدة 6 شهور في محطة الفضاء الدولية وعلى مدار 6 شهور بعد عودتهم.
وبمقارنة صور الأشعة قبل السفر إلى الفضاء وبعده، وجد الباحثون زيادة في حجم مناطق السوائل المحيطة بالأوعية الدموية في أدمغة رواد الفضاء الجدد الذين سافروا إلى محطة الفضاء الدولية لأول مرة، لكنهم لم يرصدوا الزيادة نفسها لدى رواد الفضاء الذين سبق لهم العمل على متن المحطة الفضائية وبقوا هناك فترات طويلة، إذ رصدت الفحوصات فروقا طفيفة.
يفسر خوان بيانتينو، عالم الأعصاب في جامعة أوريغون للصحة والعلوم Oregon Health & Science University ومؤلف الدراسة ذلك قائلا “يبدو أن رواد الفضاء المخضرمين قد وصلوا إلى مرحلة من التوازن البدني والفسيولوجي. وكانت الدراسات السابقة التي أجريت على أنسجة المخ وأحجام سوائلها قد توصلت إلى أن هذه الأنسجة تتعافى ببطء من الفترة التي قضوها في الفضاء، وأن بعض التغيرات الحاصلة قد تصاحب رواد الفضاء لمدة عام أو أكثر.
ومن المعروف أن رواد الفضاء في الوقت الحالي نادرا ما يسافرون إلى الفضاء أكثر من 3 مرات طوال حياتهم، وعادة لا يبقون أكثر من 6 أشهر في المرة الواحدة. لكن رحلات السفر المستقبلية إلى المريخ سوف تستغرق عدة أعوام، ولهذا من الضروري معرفة تأثير البقاء لفترات طويلة في الفضاء في ظل جاذبية ضعيفة أو محدودة على وظائف الأجهزة الحيوية داخل الإنسان.
وظيفة المناطق المليئة بالسوائل الدماغية
هذه المناطق جزء لا يتجزأ من النظام الطبيعي لتصريف السوائل حول المادة الرمادية وتطهير الدماغ من الفضلات والمخلفات التي تتراكم في خلايا الدماغ أثناء ساعات اليقظة. وهذا النظام الطبيعي الذي يعرف باسم الجهاز الغليمفاوي Glymphatic system ويغطي الدماغ بالكامل يقوم بتطهير الدماغ من البروتينات الأيضية التي قد تتراكم في الدماغ أثناء اليقظة.
وإذا لم تؤد هذه الأوعية مهامها بكفاءة في تصريف السوائل خارج الأنسجة، فقد تتراكم المواد الضارة، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة احتمالات الإصابة بالاضطرابات العصبية التنكسية الناجمة عن تدهور أو تآكل الأعصاب. وعادة ما تحدث الزيادة في حجم المناطق المحيطة بالأوعية الدموية مع تقدم العمر ويرتبط ذلك أيضًا بتطور الخرف.
يقول بيانتينو “قد تكون نتائج الدراسة مفيدة في تشخيص وعلاج الأمراض الأرضية المتعلقة بالسائل الدماغي الشوكي مثل استسقاء الرأس، وهي لا تساعد فقط في فهم التغييرات الأساسية التي تحدث أثناء السفر للفضاء، لكنها تساعد أيضا الأشخاص على الأرض الذين يعانون من أمراض تؤثر على دوران السائل النخاعي”.
أسئلة لم تجب عنها الدراسة
ولم تكشف الدراسة بعد مدى تأثير الرحلات المتكررة إلى الفضاء على تفاقم الأعراض والتغييرات، وكذلك دور التغييرات التي تحدث في الرحلة الأولى في تكيف رواد الفضاء مع الواقع الجديد. وحتى بعد معرفة تأثير البقاء في الفضاء لفترات طويلة على تمدد المناطق المحيطة بالأوعية الدموية، لم يتضح بعد ما إذا كان التغير مصحوبا بأي أخطار صحية ملحوظة.
ومن السابق لأوانه كذلك معرفة ما إذا كان للجاذبية شبه المنعدمة أي تأثير على دوران السائل الدماغي الشوكي حول أدمغتنا، ناهيك عن معرفة مدى خطورة التغييرات في أشكال شبكة القنوات. وقد لا يتضح الأمر حتى يكون لدى الباحثين عينة كافية من رواد الفضاء المخضرمين الذين لديهم خبرات واسعة في السفر للفضاء.
وبطبيعة الحال، فإن معرفة العلماء كل شيء عن هذه التغيرات التي تسببها المعيشة في الفضاء تتجاوز الأضرار المحتملة للسفر والعمل في الفضاء الخارجي. وحسبما يقول خوان بيانتينو “هذه المعلومات تدفعك لطرح بعض القضايا الأساسية في العلوم وكيف تطورت الحياة على الأرض”.
إننا لا نشعر بأي معاناة بسبب سحب الجاذبية الدائم لنا للأرض، فهي ليست أمرا نقاومه أو نحاربه أو نسعى للتخلص منه، بل نشعر معها بانسجام تام، فقد تعودت أجسامنا على الاستفادة من قوة الجاذبية في تدفق الدم والتخلص من الفضلات وربما مجموعة متنوعة من الوظائف الأخرى التي بالكاد نفكر فيها.
ومن خلال دراسة التغيرات الطفيفة في صحة رواد الفضاء وتكوين أجسامهم ووظائفها في ظل ظروف لم يعهدها الإنسان من قبل، يتعرف العلماء على المزيد عن الأمراض والاضطرابات التي نجحت أجسامنا في تحملها على الأرض.
التعليقات مغلقة.