مدن الملاهي.. تفريغ للضغط النفسي للكبار قبل الصغار
قد يكون المكان الوحيد الذي ترى فيه بريق العيون حقيقيا والابتسامات غير ملتبسة. عندما دخلت إلى ديزني لاند في إحدى ضواحي باريس انتابتني مشاعر عارمة من النشاط والطاقة الايجابية، قد يكون للألوان الفضل الأكبر للوهلة الأولى، لكن بعد المشاركة في عدد من الألعاب تشعر أن حماما داخليا ينظف كل الضغط وينفس عن الحزن والقلق.
النفسية بحاجة إلى مدينة الملاهي
اللافت أن عدد الكبار يفوق صغار السن، فهل يعوّضون عن طفولة مفقودة؟ أم أنه فعلا في كل منا طفل يختبئ في الزوايا الأكثر صدقا وبراءة في أرواحنا؟ أم أن تدفق الهورمونات له هذا السحر المجدد للحياة؟
“النفسية محتاجة مدينة ملاهي”، كلمة قد تسمعها فعلا من بعض البالغين. إنها ربما لذة أن تكون معلقا كأنك هارب من ثقل جاذبية الأرض، والأرجح مما يثقل كاهلك من مسؤوليات، تخلع روحك التعبة وتجعل الأدرينالين يحلّق بك في متاهات السعادة.
هكذا ولدت مدن الملاهي
تعد المعارض الدولية في بريطانيا والتي كانت تحتوي على بعض النشاطات المسلية، ربما الأم الأولى لمدينة الملاهي التي نعرفها اليوم.
ففي القرن السادس عشر، وأيام الملكة إليزابيث، انتشرت مراكز التسلية والترفيه في إنجلترا متضمّنة الطعام والألعاب، ثم في أنحاء أوروبا خاصة في مهرجانات الحصاد الموسمية أو السنوية.
ولعل أقدمها ملاهي “باكن” (Bakken) في كوبنهاغن بالدانمارك التي افتتحت عام 1583، وكانت تضم متنزهات وأكشاكا وعروض ألعاب نارية وركوب خيل، وهي ما تزال تعمل حتى اليوم.
كانت الملاهي متنفسا حقيقيا للمواطنين في أوروبا وأميركا، وأنفق الكثير من المال لإنشائها في المدن الرئيسية أولا لتعود وتنتشر في الضواحي والأرياف.
أما الألعاب الميكانيكية والكهربائية فقد ازدهرت أواخر القرن التاسع عشر، إضافة إلى قاعات الرقص وركوب القوارب والملاعب الرياضية.
هكذا تعالجنا الملاهي
تقول رئيسة الجمعية اللبنانية لتطور التحليل النفسي (ALDEP) المحللة والمعالجة النفسية الدكتورة منى شراباتي، إن من الضروري أن نفرّق في مدن الألعاب بين نوعين: الخفيفة التي لا خطر فيها إنما مجرد تسلية ولذة، والألعاب القوية التي تعطي شعورا بالخوف وبالخطر.
وتضيف “الكبار، إذا كانوا لعبوا في طفولتهم فإنها تعيد إليهم اللذة ذاتها التي شعروا بها، فيسترجعون بالتالي طعم الطفولة ويفرحون بها، مما يجعل حياتهم اليومية مبهجة. أما الذين لم يلعبوا في طفولتهم أو كان لعبهم منضبطا ولم يعطهم الأهل الوقت الكافي للعب ولم يلعبوا معهم، هؤلاء يلعبون أحيانا تعويضا عن طفولتهم”.
واللعب برأي الدكتورة منى أمر أساسي يجب أن يمارسه الطفل بشكل يومي إلى جانب درسه وواجباته الأخرى.
ويلعب الكبار براحة في مدن الملاهي، لأنه مسموح لهم اللعب فيها، بينما الحياة العادية لا تهبهم هذه الميزة.
واللعب يرفّه عن المرء ويخفف من وطأة الحياة المليئة بالواجبات والمسؤوليات ويريح الكبار نفسيا ويزيح عنهم الضغط، كونه لا يهدف سوى إلى التسلية ولا تترتب عليه أية نتائج، بحسب الدكتورة منى.
لماذا يتوجه البالغون إلى الملاهي؟
أما لماذا يتوجه الكبار إلى الملاهي، فتجيب الدكتورة منى “هناك أناس يفعلون ذلك للشعور بتدفق هورمون الأدرينالين والأندروفين، وذلك في الألعاب القاسية التي ينقلب فيها الجسم رأسا على عقب، تفرحهم ولا ترعبهم، فتكون ناحية اللذة فيها مسيطرة”.
وتضيف “منهم مَن يعيشها كخبرة جديدة أو للتخلص من الخوف أو الضغط العصبي. فهذه التجربة تدخل الشخص في ضغط أكبر ومفاجئ يرفع الأدرينالين في الجسم، وتريحه وتخلصه من ضغطه اليومي. أي علاج الضغط بضغط مضاعف. وتعطي هذه الألعاب اعتزازا بالنفس، ونشوة وشعورا بالغبطة والانتصار”.
وتؤكد أنه يجب أن يكون لدينا دوما وقت خاص للترفيه عن النفس، لأنه يريح ويجعلنا أكثر فائدة وإنتاجية في حياتنا.
وعن الجانب العلاجي للتردد على مدن الملاهي، تقول المعالجة النفسية الدكتورة منى “إذا كان الشخص يعاني من رهاب (فوبيا) أو قلق -كالرهاب من المرتفعات- فقد يكون تأثير التعرض للموقف المسبب سلاحا ذا حدّين، فالتعرّض لها بقوة قد يسبب شفاءً إذا كنا مطمئنين لمن حولنا ونشعر بالثقة أنه سيتلقانا جيدا ويشجعنا”.
ومن الأفضل -بحسب منى- أن نقوم بهذه الأمور ضمن مجموعة تتشارك التجربة مع الضحك والصراخ والدوخة، وبالتالي تأخذ حيزا أفضل في العلاج، وإلا فإن هذا التعرض للموقف قد يزيد الموضوع حدّة وتكون النتيجة عكسية.
وتكون نتيجة اللعب عادة جيدة إذ يتبعها شعور بالراحة النفسية، لأننا -بحسب الدكتورة- “نغطس في عالم الطفولة ونشعر بالإنجازات من دون انتظار تقييم أو علامة حسن سلوك”.
لكن إذا كانت مجموعة تريد أن تلعب ألعابا غير مألوفة وصعبة ولم يستطع أحد أفرادها تجربة لعبة معينة، فإنه يشعر أن نرجسيته مست، ويصنف كأنه فاشل، لذا من الأفضل اختيار مجموعة داعمة لا تُشعر الشخص بالعجز والضعف، وتضعه في صورة مذلة تشوه صورته أمام نفسه أو أمام أصدقائه.
لا تجبر طفلك على ممارسة أي لعبة بالقوة
وتضيف الدكتورة منى شراباتي “أنا عادة أنصح الأهل بأخذ أولادهم باعتدال إلى الملاهي شرط ألا يجبروهم على ممارسة أي لعبة بالقوة، هذا يعطي ثقة أكبر بالنفس لأن الأطفال قادرون على اللعب والتعبير بالصراخ والبكاء -بعكس الراشدين- بحرية كبيرة”.
وتبين أن هناك قسمين في العلاج النفسي، بعضهم يلجأ لعلاج سلوكي معرفي (سي بي تي) (Cognitive behavior therapy) فيطلب من المريض القيام بالمغامرة في أجواء إيجابية بمساعدة أحدهم أو مع معالجه النفسي، خاصة فيما يتعلق بالفوبيا؛ و”القسم الآخر الذي أنتهجه يعمل على اللاوعي والجذور والمسببات والصراعات النفسية الدفينة للتحرر من الفوبيا”.
التعليقات مغلقة.